فكيف أتيتِ أنتِ من الزحامِ ؟!

سحب حقيبته من الجهاز بعد أن أطلع الشرطي القابع خلف الشاشه هناك على كل ما فيها، أخذ محفظته وجواله من الصندوق البلاستيكي الصغير، وكذلك ساعته، لفها علي معصمه، ساخراً في نفسه من الزمن الذي تحسبه هذه الساعة. لحظتها ليس للزمن رصيد في حسابه. نظر للتذكرة.. بوابة رقم 36، نظر للساعة مرةً أخرى، بقي على موعد الإقلاع أكثر من ساعة بقليل. ذهب لأحد المقاهي ووقف حائراً ماذا يطلب، أستقر رأيه على شوكولاته ساخنة، تقول النساء أنه يعدل المزاج العكر، ويقول ذلك أيضاً عنوانٌ قرأه سريعاً ذات يوم لأحد الدراسات.

لم يتساءل إن كان يمكن لدوامة العمل والارتباطات وقائمة المهام الطويلة أن تشغل الإنسان عن من يحبه بصدق، لأن إجابة هذا السؤال مقررة في ذهنه بوضوح، فهو يعتقد بأن الأيام تسرق الإنسان أحياناً من أصدقاءه وأحبابه، بل من نفسه أيضاً، ولكن أن يعاتبها لأنها لم تتجاوب مع زعله الأول، ويخبرها بأنه حزين لذلك، ويكون الرد بعد خمسة أيام: لا يوجد رد! هذا ما لا يمكن أن يجتمع مع محبة، ظن أنها باقية كما كانت.

أتصل بها، ليس لأنها أتصلت به قبل ساعتين ولم يرد، بل ليبين لها وللمرة الأخيرة بأنها خيبت ظنه كثيراً، وبأنه يصعب عليها فعلاً أن تقنعه بأعذار. ولكنها لم ترد.

أخذ كوب الشوكولاته الساخن، جلس على الكرسي، نظر في وجوه المسافرين، دون أن يقرأ ملامحها كما يفعل عادة في المطارات، وأخذ الألم يعتصره وهو يتذكر أناساً بالأمس القريب كانوا قريبين منه جداً، ولكنهم اليوم ليسوا بجانبه، منهم من أختار أن يبتعد عنه، ولا فرق إن كان ذلك برغبتهم أم بدونها، ومنهم من أبتعد هو عنهم بعد أن برعوا في رسم صورة غاية في الخيبة. يشعر بقلبه قد أصبح قاسياً منذ زمن ليس ببعيد، قاسياً بما يكفي لتحمل خيبات جديدة، قاسياً بما لا يكفي لتحمل خيبة منها، لأنها الأقرب إلى روحه، أو هكذا هكذا كان يشعر على الأقل.

لم يتصور يوماً أن يكون من ضمن أولئك اللذين تقرأ كلامهم وتتركه دون أن تعقب عليه ولو بكلمة واحدة، "أنا مشغولة جدا"، "أمر بظروف غير سعيدة"، لا شيء.. ولا بكلمة واحدة لا تحتاج سوى بضع ثواني لإرسالها.. تقرأ.. لا ترد.. ثم تنساه !

تنساه.. وهل هناك ما يحزنه أكثر من ذلك ؟!

بينه وبين نفسه وضع فاصلةً لعلاقةٍ أمتدت لسنوات، علاقة يصعب على أحد إدراك كُنهها، تماماً كما يصعب عليه ذلك أيضاً. لم يضع نقطة لأنه لن يهجر كما فعل مع آخرين، بل فاصلة لأن معنى هذه العلاقة سيتغير، أو أنه قد تغير فعلاً، دون أن يكون له خيار في ذلك.

ركب الطائرة. رفض البسكويت الذي أمتدت به يد المضيفة، فلم تترك اللوعة مُتسعاً في جوفه لبسكويت، ولكنه قبل بالماء، مُمَنياً نفسه بأنه سيساعده على هضم هذه الخيبة الجديدة. فتح جهازه اللوحي، وكتب هذه الكلمات..!!

 

في الجو من البحرين إلى قطر

السبت 3 مارس 2012

نُشرت بواسطة

alharban

Bahraini guy, working at Al Jazeera Media Netowrkin Doha. Triathlete, 2 IM in pocket. Founder of @weallread.

3 تعليقات على “فكيف أتيتِ أنتِ من الزحامِ ؟!”

  1. سطور رائعة.. ومداد خصيب
    منيرة هي المدونة المشرقة دائماً
    أبو ياسر/ عبدالعزيز

  2. محبرة نقية.. ذائقة سحرية..
    أنيقة هي الحروف الذهبية
    تحياتي ودعواتي المخلصات لك
    لك الخير والسعادة جناحاها مرفرفتان
    أبو ياسر/ عبدالعزيز،،،

اترك رد