لقــاء..

بعد معاقرة كؤوس جميع أصناف اللوعة، هزمها أخيراً سلطان النوم، كما يهزم أعتى الطغاة بكل هدوء، عبرت أعتاب دنيا الأحلام، حتى استقرّت في لا مكانٍ هناك، حيث لا تستطيع رؤية ما حولها. جلست ودوران شريط الذكرى يقطع قلبها الحزين، وجعلت من كفيها الناعمين وسادةً، ارتمى عليها وجهها بكل ثقله وطرواته، فاحتضن كفاها وجنتيها الورديتين، الرطبتين بفعل أنهر الدموع التي جرت على سطحيهما الرقيقين، قبل أن تخسر نزالها مع سلطان النوم.
شعرت أنها في غرفة مغمورة بالظلمة ورائحة الغبار. رأت طيف نورٍ يأتي من بعيد. تجمدت مكانها تترقبه. وقلبها الممتلئ خوفاً لم يكف عن خفقانه السريع، حتى استقرَّ النورُ رَجُلاً منتصباً أمامها، فقالت بصوت خافت لا تكاد هي أن تمسعه:
          من أنت ؟!
بلجهةٍ مصريةٍ رد:
          مساء الخير!
ما إن سمعت صوته، انفجرت ينابيع الدموع، وعادت الأنهارُ تجري، حتى كادت تذيب خدودها المشبعة بالحمرة، وقاطعته:
          حبيبي!! خالي!! حبيبي!!
انقضَّت عليه لتضمّه، فطافت ذراعيها طيفه البارد، وارتطما في صدرها، وكادت أن تسقط أرضاً لولا أنها اصطدمت بجدار ترابي خشن لم تحس بوجوده، شعّ بريق ابتسامة من وجهه وقال:
          ليس الآن يا صغيرتي.. ليس الآن.. امسحي دموعك واجلسي هنا.
بحثت عن ما تمسح به زلال عينيها، لكنها لم تعثر على بقعة في جسمها سلمت من البلل لتمسح بها، لم يكُن هناك سدٌ يوقف نهر دموعها الجاري، قالت بحزنٍ عميق:
          ألا أستطيع رؤية وجهك؟ أريد أن أُرجع كل ذرة من تفاصيله إلى ذاكرتي التعيسة، فقد بدأت أنسى وجهك شيئاً فشيئاً!
          ستنظرين إليّ قريباً مهما طال بك العمر. قبل كل شيء، هل تصنعي لي معروفاً يا صغيرتي؟
          أصنع لك معروفاً؟! معروفاً واحداً! روحي تنتظر إشارة منك لتفتديك.
          حفظ الله روحك، طلبي صغير جداً، هل تعدينني أن تنفيذه؟
          ولو كان على هلاكي، آمر يا خالي، آمر، فكم قصَّرت في حقك أنا.
          أرجوكِ أرجوكِ، كفي عن سكب الدموع، كم تعذبني هذه الدموع.
          فقدك موجع يا خالي العزيز، موجع.
          آلمني حزنكم البالغ لفقدي، حزنك أنتِ بالذات.
          أوتشعر بحزني؟! أوتحس بلوعتي؟!
          نعم يا حبيبتي، نعم أشعر. لو تعلمين راحتي لكان مكان حزنك هذا فرحاً. هل تنفذ صغيرتي الحلوة رغبتي أم لا؟
          الآن فقط أشعر بأنني أستطيع أن أكف عن البكاء.
في محاولة منه ليعيد بنت أخته لطبيعتها المرحة الشقية، التي اعتاد أن يراها بها، قال:
          لقد كبرتِ يا صغيرتي، وأصبحتِ فتاة يافعة، وزاد جمالكِ جمالاً.
لم يمنع هول الموقف ابتسامتها الخجولة من أن ترتسم على ثغرها الصغير المكتنز، وبنجاح الفتيات الذكيات، باشرت في انقاذ نفسها من هذا المطب المحرج وسألته:
          هل أستطيع أن أظل معك هنا؟
          لن تستغرق زيارتك أكثر من 3 دقائق.
          3دقائق فقط؟! لا! أريد أكثر، أريد أكثر، أريد أن أُغرق أذني بكلماتك الحلوة، أريد أن أرهق جسدي بمداعبتك، أريد أن أخدمك في بيتك الدامس الموحش هذا.
          دامس وموحش؟! ها ها ها.. صغيرتي الحبيبة، أتعلمين، لو خُيّرت أن أرجع إلى قصور الدنيا ما رجعت، فكيف بسرير ختمت عليه تفاصيل بدني من طول المرض؟!
          أفهم من كلامك أنك مرتاح هنا؟!
          حبيبتي، لقد كنت في دار الشقاء والتعب، وبيت الهم والنكد، وحياة الشقاء والضجر، وقد زادني مرضي تعباً وهماً وحزناً، أما وقد رحلت عنها، فنزلت في ضيافة وكرم أرحم الراحمين، فأكرم نزلي، وغسلني بالماء والثلج والبرد، وآنسني عملي الصالح حتى لا أكاد أحس بالملل.
رأت ذراعه النور تتحرك، لتكشف بإضاءتها شيئاً من زوايا الظلام، حتى امتدت إلى قارورة، رفعها إلى بريق ثغره، وسمعت صوت الذي يشربه وهو يمر من خلال حنجرته، فقالت والدهشة تعتريها:
          ماذا تشرب يا خالي؟!
          أشرب خمراً.
          خمر؟!
          نعم خمر، هذا قليل من كثير مما يصلني من دار السرور، ليتني أستطيع أن أسقيك منه قليلاً.
          ألا يمكنك أن تسقيني منه قليلاً؟
          ها ها ها، كما عهدتك صغيرتي الحلوة، تودين لو تجربين كل شيء. عندما كنتِ صغيرة، أذكر أني أنقذت لسانك الوردي ومعدتك الطرية من كوبٍ حليبٍ حار، حاولتي سرقته من على الطاولة في غفلة من أمك. حدثيني عنك، عن والديك وإخوانك، عن دراستك، عن مغامراتك التي لا تنتهي مع صديقاتك.
          لماذا نضيع الدقيقية والنصف المتبقية في الحديث عن أخباري؟! أنا المتشوقة لسماع أخبارك.
          منذ متى يهتم الأحياء بأخبار الموتى؟! أخباري كما ترين، أنتظر في هذا المكان، كما تنتظرين أنتِ في مكانٍ آخر.
          تنتظر؟! أنتظر؟! ماذا ننتظر أنا وأنت؟!
          ننتظر أن نحيا الحياة، الحياة يا صغيرتي ليست هي التي تعيشينها هناك، وليست هذه التي أعيشها أنا هنا، إنها أخرى, كلانا ينتظرها، الفرق أنني أنتظرها هنا في هدوء وراحة وسكينة، أما أنتي فلم تكملي بعد نصيبك من الدنيا، بكل ما في هذا النصيب من تعب وكدر!
تابع ولكن بلهجة مصرية هذه المرة، الأسلوب الذي اعتاد أن يداعبها به في الحديث:
          إزاااي؟! حتؤولي لي أخبارك ولا إيه؟!
ضحكت حتى دفنت عينيها التي زادها غسيل الدموع لمعاناً تحت أهدابها من جهة، وخديها من جهة أخرى، وقالت:
          آأولك أيه ولا أيه يا خالي في دئيئه وحده؟! كول الي أعرفوه إني بحبك كتير ومشتائة لك كتير كتير كتير.
          أنا كمان بحبك يا شئيه.
اقترب منها، وزرع على خدها قبلة، أحست ببرودها هذه المرة، وقال:
          حان وقت الرحيل يا صغيرتي.
          آه لو كنت أستطيع التحكم في نواميس الحياة! تحمل بنفسك يا خالي.
          لا شيء هنا أتحمل بنفسي منه، أنتي من يجب أن تتحمل بنفسها.
وبنبرة جادة، وهي الوحيدة من نوعها في هذا اللقاء السريع، أضاف:
          إياكِ إياكِ من إهدار الدموع، وإكثار الحزن، تذكري أن ذلك يعذبني كثيراً، هل يسرُّك أن تعذبي خالك الذي تحبينه؟
          بالطبع لا.
          إذن أرجوك لا تفعلي.
          أعدك أني سأبذل كل ما أملك من جهد للتحكم في عواطفي.
          الأمر لا يحتاج لكثير جهد، فقط تذكري كلما هاجت عواطفك أن ذلك يعذبني كثيراً.
          إن شاء الله سأفعل.
          إلى اللقاء، في دار السرور بإذن الله.
          إلى اللقاء خالي العزيز.
استيقظت من نومها، شعرت بخيال امرأة، لم تستطع أن تميزها فوراً، عرفت أن المرأة التي تقف بجانب سريرها هي أمها عندما قالت لها: (نمتي كثيراً اليوم يا ابنتي الصغيرة، هيا استعدي للانطلاق إلى الجامعة).
رفعت يديها وقالت: اللهم اغفر له وارحمه، وقامت من سريرها مبتسمة ابتسامة من أحسنت الظن بربها..

نُشرت بواسطة

alharban

Bahraini guy, working at Al Jazeera Media Netowrkin Doha. Triathlete, 2 IM in pocket. Founder of @weallread.

12 تعليقا على “لقــاء..”

  1. قصة قصيرة جميلة .. أول مرة أقرأ لك نص من هذا النوع يا أحمد ..

    يبدو بأنك متعدد المواهب /

    امممم كان النص لطيفا ً حرك بداخلي بعض الذكريات .. ربما لأنني كنت أفتقد خالي الغائب كذلك، وربما لأنني مازلت أبكي فراقه ..

    تحية تليق بقلبك الرائع ونصك المميز ..

  2. متميز كالعادة, والأسلوب مشوق ،يجعل القارئ يكمل قراءة القصة إلى النهاية ..أحسنت في التعابير كثيراً،فهي في منتهى الجمال والدقة ..

    وهذا اللقاء هي رسالة جميلة للقارئ،فنحن في هذه الدنيا عابرو سبيل ،وأن البكاء والحزن لا يفيد شيء للمتوفي، بل يزيده حزناً وألماً، ولا ينفع غير الدعاء بالرحمةو والمغفرة

    يعطيك العافية وبانتظار قصة أخرى 🙂

    مريم

  3. قصة جدا جميلة كلمات معبرة احاسيس صادقة معاني واضحة

    كتبت فأبدعت فجزاك الله خيرا ونفعك بك المسلمين وفي انتظار الجزء الثاني.

  4. أخي واستاذي …

    بارك الله فيك على السرد الجميل..:)

    ورحم الله موتانا وموتى المسلمين..

  5. الاخ والاستاذ أحمد قصة تحمل في ثناياها معاني ايمانيه

    أتمنى لك التوفيق

    الاعلامي هيثم يوسف
    مدونة الحرية متاحة لمن أرادها

  6. اخي وصديقي وحبيب قلبي احمد الحربان اقف هنا وارفع لك القبعه احتراما لك ولقلمك الراقي الذي يبهرني بجمال حروفه وعذب احاسيسه.

    دار السرور اعرفه جيدا انه المكان الذي نعشقه ويعشقه من يعشق الرومانسيه ويعرف الحب ويعرف كيف يستمتع بوقته الثمين مع من يحب.

    مقالك اخذني لينابيع الحزن واخذ بيدي واخذنا نتمشى على شواطى الذكرى ونقلب المواجع ولكن ما لم اعرفه يا الحربان كيف استطعت ان تعيد لي البسمه من غير ان ادرك انني امر بمراحل عديده وتاخذني بعيدا وتقربني مِن مَن كنت افتقده.

    انك تحمل بين حروفك الرومانسيه والاحساس الجميل .. مبدع يا اخي و كل مره تفاجئني بما هو اجمل واعرف بانك تملك ما هو اجمل فلا تبخل علينا.

  7. ناس إذا عاشوا الحزن عشناه..
    حبيت أواسيهم بطريقتي !

    أمل المرزوق
    شكرا على المرور والتعليق..
    فعلاً أول مقاله لي بهذا النوع
    يمكن الي قبلها فيها حوار.. لكن هالمرة كان فيها خيال..

    مريم
    شكراً على التعليق 🙂
    إذا كان هناك من تميز فهذا من ثمارتشجيعكم المستمر

    تسلم يا أخوي رياض..
    طل علينا.. لا تقطع 🙂

    أم أحمـد!!
    أمي معلقة علي هني؟!
    ههههههه 🙂
    شكرا أختي.. عاد سويتيني أستاذ مرة وحده !!

    الأستاذ هيثم يوسف..
    شكرا على المرور أستاذي
    وفقني الله وإياك لكل خير

    غريب الدار
    جمعني بك الرحمن في دار السرور 🙂
    ومشكور على التعليق والمرور 🙂

  8. للخال ياأحمد مكانة قريبة الي القلب فهو اخو الحبيبة . وهو اقرب الناس اليها . وكيف لا نحب من تحبه امهاتنا .. هو رفيق طفولتنا وشريك ذكريات وهو نبض قلوبنا . فلا عجب أن تحزن هذه الفتاة. فتأسرنا بحزنها… قلمك جميل يا أحمد

    علاء الدين / ليبيا

  9. أخي العزيز علاء
    أولاً: اشتقت لك كثيراً 🙂
    ثانياً: مشكور عزيزي على الإضافة الجميلة 🙂

    وسلامي للوالد والأهل بليبيا

    أستاذي abonewzad
    شكــراً 🙂

  10. .. امممم نوعاً ما افتقد خالاً كهذ1 ..
    عشت مع القصة وبتعابيرها الرائعه التي جعلتني وكأنني اشاهد الموقف بذ1ته, طرحك ممتاز .. شكراً لك : )

  11. أخي

    لم أكن أعلم أنك متعدد المواهب

    تجيد كتابة القصص

    اتمنى ان اقرئ لك يوماً “قصة كاملة ” مطبوعة

    اتمنى لك حياة مشرقة

    التوقيع : الملثمة

اترك رد