

كثيرة هي التساؤلات والتحديات التي تبرز في أذهاننا، كردة فعل طبيعية لأي صفعة نتلقاها، ولكن السؤال الذي أود إبرازه هنا هو: ماذا بعد صمود غزة أو سقوطها –نسأل الله الصمود- ؟! فمآسي القضية الفلسطينية مستمرة منذ احتلالها، وستتفجر مأساة تلو الأخرى في المستقبل، فهل ستستمر معها محدودية ردود أفعالنا في تنظيم المظاهرات، وجمع التبرعات، وإلقاء الخطب وتوقيع البيانات وغيرها من أساليب التعبير عن الرفض والشجب والتنديد ؟! أم أننا سنتطور يوماً وسنقول بعد كل هذا (أما بعد) ؟!
إذا كانت هي فصل الخطاب، أعني (أما بعد)، يُقصَد بها التخلص من المقدمات إلى ما يريد المرء بيانه، فنحن نحتاج إلى (أما بعد) أخرى لفصل الأفعال، أو بعبارة أدق، لتوجيه ردود الأفعال العاطفية إلى مشاريع ومناهج وأفكار تؤتي أكلها ولو بعد وقت طويل، وهذا دور القادة، قادة الفكر والرأي على وجه الخصوص، الذين يستطيعون -بتأثيرهم وبمساعدة الفاعلين الآخرين في ربطهم بالجماهير- حشد طاقات الجماهير وصبها في أوعية متعددة، مصممة بعناية لتستوعب أوسع شريحة ممكنة، لا من حيث التخصصات فحسب، بل حتى من حيث الأيديولوجيات.
بعد عدة أشهر قضيتها مع رسولي لكثير من الأصدقاء والمعارف، وأمين أسراري وخصوصياتي، “البلاك بيري”، قررت الإنفصال عنه، وقطع الخدمة نهائياً !
حبي لاستخدام أي تقنية متوفرة في مجال الاتصالات، هو السبب الرئيسي للإشتراك في خدمة البلاك بيري، وأسباب أخرى من أهمها أن أتواصل مع من أريد عبر البريد الالكتروني في أي وقت، واستقبال الرسائل فور وصولها في أي وقتٍ كان، وفي أي مكان كُنت، وبالتالي لا يظل قلبي معلقاً في “اللاب توب” حتى أنقض عليه إذا ما رجعت إلى البيت لمعرفة إذا ما كانت هناك رسائل جديدة واردة. وكذلك التقليل من استخدام الرسائل النصية، والتي لها نصيب الأسد من كلفة فاتورة هاتفي النقال، كانت إحدى حسنات الخدمة.
ولكن صديقي البيري الأسود كان حاضراً معي في كل لحظة أعيشها في يومي، وكثيراً ما أشغلني عن أمور كثيرة! عن التركيز في اجتماع، أو متابعة حدث، أو الإندماج اللذيذ في قراءة كتاب، أو الانتباه للسياقة، فهو تلقائياً ودون شعور يفرض أولويته قبل كلي شيء! حتى بدأت أشعر بأن وقتي ملكه هو، لا ملكي أنا !
لا أنكر فائدته حقيقةً، ولكن عند مقارنتي الشخصية بسلبيات استخدامه، بالنسبة لي على الأقل، تُرجَّح سلبياته على الفائدة بدون أدنى شك. ومن السلبيات، الخطيرة على النفس، هو كوني متصل online / live ) ) في كل وقت، وما أدراك ماذا يعني أن تكون متصلاً طول اليوم، بكل ما فيه من دقائق ولحظات! فهذا يعني أنك تكون مختلطاً مع الناس -الكترونياً- معظم وقت يومك إن لم يكن كله، وعزلتك مع نفسك وعملك يصبح شيئاً نادراً.
يقول عائض القرني في كتابه (لا تحزن): “الاختلاط الهمجي حرب شعواء على النفس، وتهديد خطير لدنيا الأمنِ والاستقرار في نفسك، لأنك تجالسُ أساطين الشائعاتِ، وأبطال الأراجيفِ، وأساتذة التبشير بالفتن والكوارث والمحن، حتى تموت كلَّ يومٍ سَبْعَ مراتٍ قبل أن يصلك الموتُ !”. ولا يختلف ذلك عن البريد الالكتروني بما يحويه، فهو لا ينقل رسائل الأصدقاء والمعارف فقط، بل نشرات أخبارية، ومقالات، وغيرها.
في المسح السنوي الثالث لشركة أميركا أون لاين AOL، أظهر المسح النتائج التالية: 59% يطلعون على رسائلهم الالكترونية فور وصولها! ونفس النسبة لأولئك الذين يطلعون عليها وهم في السرير، و37% يطلعون على بريدهم الوارد وهم يسوقون السيارة، وهذه الفائدة الخطيرة، هي الوحيدة التي افتقدتها بعد قطع الخدمة، فإرسال ومتابعة البريد الالكتروني في شوارعنا المزدحمة فكرة عملية لاستغلال الوقت.
اعتاد أصدقائي انتظار ردي المباشر على رسائلهم الالكترونية، وإذا لم يكن هناك ثمة رد، يصلني: (أحمد! وينك ؟!) وكأن البريد الالكتروني أصبح تماماً كالمحاثة الصوتية! أصدقائي عذراً..
لا بلاك بيري بعد اليوم، ولن أدع التواصل الالكتروني يسلبني تركيزي، والاستمتاع بلحظات أيامي. للإيميل وقت، كما للنوم والأكل والقراءة والعمل. وإذا كان العمل يتطلب متابعة مستمرة عبر الإيميل، فلتكن المتابعة وقت العمل، فقط دون غيره، وتباً للعمل الذي يسرق أوقاتي خلسة دون استئذان بدبلوماسية “البيري الأسود” !