قصة قصيرة
أشعل سيجارته قبل أن يرشف من قهوته التي اعتاد مؤخراً على شرابها، اسبريسو بدون سكر. أرخى حاجبيه وسحب نَفَساً طويلاً لم يُبقِ من السيجارة إلا ثلاثة أرباعها. أبعد السيجارة عن شفتيه، نظر إليها وفكّر.. (لا أدري أيهما أسرع احتراقاً.. أنتِ أم هذه الشركة؟). أحدهم يربت على كتفه من الخلف، التفت فوجد زميله عيسى بوجهه المتفاءل دائماً. أبرز اسوداد لحيته بياض وجنتيه.. قال بصوت غير مسموع (وصل حبيب الكبار)، وبصوت مسموع قال:
– أهلاً بوعبدالله، حياك تفضل
– الله يحييك
جلس أمام حسن في المقهى الصغير الخاص بالموظفين في بهو الشركة، بادر بالحديث:
– عسى ما شر بوعلي؟ أشعر بأن هناك ما يشغل ذهنك هذين اليومين.. كثير الصمت والتفكير.
نظر حسن إلى القهوة وهي تدور داخل الكوب الصغير بفعل حركة يده، بدا وكأنه يُفكر فيما سيقول، لأنه يعلم بأن الذي أمامه موصل جيد للحرارة، الحديث معه كصب الكلام في آذان أعضاء مجلس إدارة الشركة. إلا أنه قرر أن لا يُخفي الموضوع لمدة أطول..
– بصراحة، لا شيء يُعجبني، المشروع الذي نعمل عليه ليل نهار في هذه الشركة، أنا وأنت وغيرنا من الموظفين..
– أي مشروع تقصد بالضبط؟
– مشروع شركتنا الأساسي.. الذي نعمل كلنا هنا له ومن أجله.
– لا يزال المشروع مُربِحاً، على اﻷقل على المُقرّبين مثلي ومثلك، أليس كذلك؟
– ألا تخشَ من أن يأكل حصة أبنائي وأبناءك أولئك الشركاء الجُدد؟ الذين وظّفًتهم الشركة وبقرار من مجلس الإدارة قبل أعوام، ولا تزال تُوَّظف المزيد منهم، رغم العجز في الميزانية.
– كلنا يعلم بأن دخولهم ما هي إلا خطوة استراتيجية لحفظ كيان هذه المؤسسة، إذا ما كانت التحديات تهدد وجودها، فإن التضحية بنسبة من اﻷرباح مُبَررة هنا، أليس كذلك؟
– لا أحد يعلم إلى أين ستصل هذه النسبة يا بوعبدالله.. لا أحد!
– حسن.. سأكون معك صادقاً، الحديث عن ثبات نسبة اﻷرباح ومستقبل اﻷبناء، ليس وقته اﻵن، ألا ترى بأن شركتنا تخوضُ حرباً يومية تحتاج إلى كثير من المتابعة والجهد.
– أنا رجل أعمال قبل أن أكون موظفاً يا بو عبدالله، وأب قبل أن أكون رجل أعمال، لذا فالأرباح تهمني، لأني عليها أعيش، ومستقبل أبنائي أولى أولوياتي، مهما كانت الظروف، خاصة إذا ما رأيت مستقبل أبناء أعضاء مجلس إدارتنا الأفاضل مُؤمًّن، وعلى حساب هذه الشركة، مهما كان وضعها المادي.
تَلَفَّتَ عيسى يمنةً ويسرة، ونظر في عين حسن بشيء من قلق:
– الأوضاع ستتحسّن، صدقني، الأوضاع ستتحسن، وأصبر وما صبرُكَ إلا بالله.
– والنعم بالله.
هَرَسَ حسن سيجارته التي لم يُكمل تدخينها في المنفضة أمامه، وقال قبل أن يتوجه للمصعد:
– لا شيء يُعجبني يا عيسى، لا شيء يُعجبني، ولا أحد هنا في هذا المكان يهمه ذلك.
***
ظَلَّ عيسى جالساً على الكرسي، طلب قهوة بالحليب، واستحضر حواراً شبيهاً دار بينه وبين زميله الآخر، راشد، قبل يومين فقط..
– مرحبا راشد.. كيف حالك وحال اﻷهل؟
– هلا بوعبدالله.. الحمدلله بنعمة ربي لك الحمد والمنّة..
– ولكن هناك كلام يبدو أنه منتشراً بين النساء، أو أنه وصل إلى زوجتي على أقل تقدير، يقول عكس ذلك.
– كلام النساء لا ينتهي.. هات ما سمعت..
– يقولون بأنك فاقد لشهية اﻷكل منذ مدة ليست بالقصيرة، وأنك أدمنت شرب البيره والسهر.
أطرق راشد، فقد ظن بأن علامات السهر لم ترتسم على سحنته، وتفاصيل حالته النفسية ستظل حبيسة جدران بيته.. زفر طويلاً ثم رفع عينه إلى عيسى وقال:
– لم تعد حياتي كما كانت يا بوعبدالله.. أشعر بأني فارغ!
– استعذ بالله من أبليس، وصلِّ على النبي، تقول هذا الكلام وأنت من أنت، مكانة مجتمعية مرموقة، ومنصب محترم في شركة محترمة، أحمد الله يا رجل.
– هه، أي شركة يا بوعبدالله؟! كانت الشركة مشروعاً جميلاً، كما كُتِبَ في نظامها الأساسي. كانت هناك أهدافاً وقيّم، وكنا نحن جميعاً، صغار المساهمين قبل الكبار، قُدامى الموظفين قبل الجُدد، نُساهم مساهمة حقيقية في بلورة القرارات، واختيار السياسات. كان لنا وجود حقيقي فيها، يعكس مدلول كلمة “شركة”، كُنا نشعر بأننا شُركاء فعلاً.
– لا أستطيع أن أفهمك! هذا الكلام لا يقوله أحد مثلك، لديه ما يكفي من الخير وزيادة، وأبناؤك تم توظيفهم في الشركة على رأس وظائف يتمناها كثيرون غيرهم. ما كل هذه السلبية؟!
– واضح أنك لم تفهم ما أقصد.. عندما يجد المرء أن لا مكان لرأيه، ولا حتى مجرد مساحة حقيقية يستطيع من خلالها أن يتبنى موقف يؤثر في مجريات الأمور، يشعر حينها بأنه صفرٌ على الشمال، ببساطة يفقد المرء معنى وجوده، وعندما يصل إلى هذه الحالة، لا المال ولا العطايا تشعره بالأمان أو الحياة.
– أرجع وأقول لك أستعذ بالله من الشيطان، وأحمد الله يا عيسى. وضعك أفضل من وضع كثير غيرك.
– الحمدلله.
***
مُسرعة تشق طريقها، وكأنها تشعر بنرفزة وضيق من يزوّد محركها بالبنزين، يحوقل منذُ أن انطلق من المزرعة.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
قبلها بدقائق كان عيسى يشرب شاياً مغربياً مع أحد أعضاء مجلس إدارة الشركة في مزرعته الخاصة. نقل له امتعاض بعض قدامى الموظفين للأوضاع، وإحباط جُل العاملين بسبب عدم زيادة رواتبهم منذ سنوات، والفساد الذي لم تعد تنفع معه عطورات الحملات الدعائية، وغيرها من ملاحظات لا تمل من التكرار، ولا تستحي من الوضوح. وكل ما خرج به (نمر في ظروف.. ليست لدينا ميزانية تكفي لزيادة الرواتب.. الوضع سيتحسّن.. أنت ماذا تريد؟.. أستطيع أن أخدمك أنت..).
تمرُّ على باله مشاريع كثيرة دخلت فيها الشركة بجدوى اقتصادية مشكوك في أمرها، وفعاليات كثيرة مجهول مصدر تمويلها، وميزانيات كبيرة أثارها بعض المحاسبين في الشركة مؤخراً، لا يدري أحد أين صار مصيرها. تتساقط شعيرات من لحيته على ثوبه الأبيض، إنه يُكثر من حكّها عندما يُفكر.. يواصل طريقه إلى البيت مستمر في الحوقله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. بدأ يشعر بأن لقاءاته الكثيرة بأعضاء مجلس الإدارة وملاحظاته لا تُغيّر شيئاً، بل صار شبه مُتيقن من ذلك.
***
بعد يومين، فتح بريده الالكتروني، قرأ سريعاً بعض الرسائل، وصل إلى رسالة من قسم التواصل الداخلي في الشركة، إنها النشرة الالكترونية الشهرية. فتحها. عنوان النشرة الرئيسي لهذا الشهر “شُبُهات طالت كبار الموظفين.. إدارة التدقيق الداخلي تُسَلّم مجلس اﻹدارة تقريرها المالي واﻹداري السنوي“. وجاء في الخبر “كما أشار رئيس إدارة التدقيق المالي والإداري إلى استمرار الهدر في بعض الإدارات، كما أن نسبة شُبهات الفساد لم تتراجع للأسف عن العام الماضي…“. لم يقرأ عيسى بقية النشرة، مسح الرسالة فوراً. هذا التقرير التاسع، سبقته ثمانية تقارير مُتخمة بالفساد. اكتفى مجلس الإدارة بصفها في المكتبة الضخمة التي تحتل جداراً طويلاً في غرفة الاجتماعات الخاصة. عيسى المتفائل، لم يعد متفائلاً.
***
صباح يوم الأحد، قدم كلٌ من حسن وراشد، وثلاثة من قدامى الموظفين، استقالاتهم إلى مكتب المدير التنفيذي.
خرج حسن من مقر الشركة والأسى يتقلّب في معدته، شعر وهو ينظر لمقر الشركة التي عمل فيها أبوه وجده قبله، تلك النظرة الأخيرة، شعر وكأنه يُودعُ وطناً !
***
في يوم عملهم اﻷول في الشركة الجديدة، تفاجئا، حسن وأحمد، بوجود عيسى معهم في الاجتماع الخاص بالموظفين الجدد مع الرئيس التنفيذي، أجاب عيونهم المشدوهة بابتسامة وهو يقول:
– أقنعتني أم عبدالله بقوله تعالى: (من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيراً وسعة) !
***
يوم الثلاثاء، يعتمد مجلس إدارة الشركة تقريراً داخلياً حول موضوع استقالات قدامى الموظفين، وقد أكد التقرير في 7 صفحات إلى الخطر البالغ والتهديد المباشر الذي تسببه الشركات المنافسة بتقديمها مميزات وحوافز للموظفين الذي ينتقلون إليها. وفي صفحة واحدة اتهم التقرير قدامى الموظفين الذين قدموا استقالاتهم بضعف ولائهم للشركة. وفي ثلاثة سطور فقط، من الصفحة اﻷخيرة، مرَّ التقرير مرور الكرام على أسباب يؤمن البعض بأنها الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الظاهرة.
لم يُقدم التقرير أي مقترح لمعالجة المشكلة معالجة حقيقية. ويتوقع مُراقبون تكرارها.