الحركة الإسلامية التركية

 معالم التجربة وحدود المنوال في العالم العربي

 

عادةً ما يختار الكاتب، أو دار النشر، أهم فقرة تشد القارئ لقراءة الكتاب ليضعها في مقدمته، أو الغلاف الخارجي له، ولكني في كتابتنا الذي نتناوله اليوم، وجدت هذه الفقرة في آخر صفحاته، وهي إجابة على تساؤل قد يطرحه بعض الشباب (ما الفائدة من دراسة التجربة التركية؟)، وفي ظني أن الفائدة المرجوة تتجاوز تلك المتلعقة بالانجازات السياسية والاقتصادية التي حققتها تركيا في السنوات القليلة الماضية، فهذه الإنجازات لم تأتي من فراغ، بل الفائدة الأبرز لخصها الكاتب في هذه الفقرة التي أشرت إليها:

 

(إدراك الحاجة اليوم إلى أن نطرح الأسئلة الجزئية ونعيد طرحها، فقهاً لواقعنا، ووعياً بحالنا، وتبصراً بمستقبلنا. ولسنا بحاجة اليوم إلى أن نبني مفاهيم ومسلّمات شعارات، بل نحن في حاجة إلى وعيٍ مضاد، يقوّض كل "المسلّمات" الفكرية والذهنية التي ترسّخَت وتراكمت خلال عقود بل قرون، وعيٌ مضاد يزيل القداسة عن كثير من المفاهيم والشعارات التي تلبستنا وتلبسناها، فغشيت بها أبصارنا وانطمرت بها الحقائق. وعيٌ مختلف يضع حداً لحالة الاحتراب الداخلي التي نعيشها في فكرنا وسلوكنا ومفاهيمنا، وتشل قدرتنا على ابتداع رؤى جديدة على طريق النهوض والتقدم).

فلا يمكن لنا الاستفادة من هذه التجربة قبل أن ندرك فعلاً إلى الحاجات التي ذكرها الكاتب، وأن نؤمن بأن ما في مخيلتنا من أنماط ومسلّمات تحتاج فعلاً إلى إعادة نظر، ومزيد من التنقيح.

في كتابه (الحركة الإسلامية التركية.. معالم التجربة وحدود المنوال في العالم العربي)، يستعرض جلال ورغي، مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية، تجربة الحركة الإسلامية السياسية في تركيا في سبعة فصول وزعّها على ثلاثة أبواب.

هدف الكاتب من هذا الكتاب هو عنوان بابه الثالث (النموذج التركي والعرب: بين جاذبية المنوال واستعصاءات الواقع)، وهو الإجابة على سؤال: هل يستطيع العرب استلهام الدروس من التجربة التركية والبناء عليها للانطلاق في طريق نهضتهم المنشودة، أم أن الحالة التركية حالة فريدة، لها امتيازاتها الخاصة التي لا يمكن أن تتوافق مع الواقع العربي؟ ولم يقدّم الكاتب رأيه أو يجيب على هذا السؤال إلا في الثلث الأخير من الكتاب، حيث خصص الثلثين الأولين لتلخيص رائع ومكثّف لقصة صعود الإسلام السياسي في تركيا، مبيناً أسباب وعوامل هذا الصعود، وهو موضوع الباب الأول، وفي الباب الثاني كتب عن السياسة التي انتهجها حزب "العدالة والتنمية"، وكيف أعاد هذا الحزب تشكيل الحياة السياسية في تركيا، على المستويين الداخلي والخارجي.

وعن طبيعة علاقة الدين بالدولة، والإسلام بالعلمانية، هذه الطبيعة التي لا تزال غامضة حتى اليوم لدى الكثير من الباحثين، يقول الكاتب لتوضيح جزء من هذه العلاقة: (لا تعني العلمانية في تركيا فصل الدين عن الدولة، شأنها شأن باقي الدول الغربية، وإنما حرصت الجمهورية الكمالية، سيراً على خطى مثال اللائكية الفرنسية، على تأكيد خضوع الدين لسلطة الدولة ومؤسساتها. ويعتقد بعض العلمانيين أن هذه العلاقة المخضعة للدين المتحكمة فيه، تجد جذورها في التجربة العثمانية، وهي من ثمة ليست بدعاً في الجمهورية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك (…) المؤسسة الدينية كما يقول دانكوارت روستو "لم تكن أبداً منفصلة عن الدولة.. وعملية فصل الدين عن الدولة بمفهومها الغربي لم تتم أبداً في تركيا الحديثة").

ومن عوامل نجاح التيار الإسلامي اليوم في تركيا، أنه غدا خيار الناس، بعد صدمتهم بعملية تحديث قسرية لم يكن له فيها أي إختيار، عملية سعى فيها أتاتورك للقضاء على التنوع بدلاً من الاستفادة منه، فقد كان يشعر بأن توحيد الجمهورية، في ظل تحديات كبيرة تواجهها حينها، يجب أن يكون بالقضاء على أي هوية أخرى، قومية أو عرقية أو دينية، وإثبات هوية واحدة وهي الهوية التركية، يحملها كل من يعيش على أرض تركيا. بَيدَ أن هناك (قطاع واسع من المجتمع التركي ظل على هامش عملية التحديث الكمالية هذه –التي اقتصرت على المدن الكبرى دون المناطق الداخلية-. في مثل هذه الأوضاع وجدت القطاعات المهمشة في التيار الإسلامي شبكة للخلاص من وضع التهميش والإقصاء الذي عانت منه على امتداد عقود)، إضافة إلى كسب التيار الإسلامي للطبقة المتوسطة من التجار، حيث رأوا في الحرية الاقتصادية التي تمنحها لهم رؤية هذا التيار ركيزة أساسية لنجاحهم وتطور الاقتصاد.

ومن عوامل نجاحه أيضاً هو الخطاب الذي تبناه حزب "العدالة والتنمية"، (خطاباً منفتحاً على الغرب، ومدافعاً عن حقوق الإنسان، والرغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتبني نظرية اقتصاد السوق، والإصلاحات الاقتصادية التي تخرج بالاقتصاد التركي من حالة الركود وحالة التضخم المزمنتين. إذ وصل الاقتصاد التركي خلال 2001 إلى ذروة الأزمة، وتوقع الكثير من المراقبين أن ينهار الاقتصاد بشكلٍ كلي خلال أشهر، إذ بلغت نسبة النمو ناقص 7.5 بالمئة تحت الصفر، وفقدت العملة 113 بالمئة من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، وتراجع دخل الفرد الحقيقي بنسبة 20 بالمئة، وتراجع الحد الأدنى للأجر من 156 إلى 100 دولاراً، وقدمت أكثر من 50 ألف مؤسسة اقتصادية صغرى ملف إفلاسها، وارتفع عدد العاطلين إلى أكثر من 1.5 مليون).

كما حظي "العدالة والتنمية" بدعم سياسي واسع يتجاوز الناخب الإسلامي والطبقي لأسباب أهمها:

1- انتشار شبكة دعمه الاجتماعية الواسعة

2- آلته الحزبية الناجعة والفعّالة

3- سياسته الليبرالية القائمة على السوق الحرة، والتي تثير إعجاب المؤسسات الاقتصادية المتوسطة

4- سياسة الانفتاح والتسامح تجاه الأقليات

أما عقبة الجيش، فقد مرت السياسية التركية بمواجهات عديدة بين الإسلاميين والجيش، الذي كان يمسك بقبضته على السياسة الداخلية، متدخلاً في كل مرة بحجة الحفاظ على القيّم العلمانية، إلا أنه (بسبب الصعود اليساري المتنامي، تسامح الجيش وشجّع في بعض الأحيان فتح مدارس دينية، وإدراج التعليم الديني في البرامج الدراسية، في مواجهة اليسار (…) ولعل من المفارقة كانت في تأكيد الكماليين في دستور العام 1982 على علمانية الدولة من جهة، وتشجيعهم التعليم الديني غير المسيّس من جهة ثانية).

وفي استعراض الكاتب للسياسية الخارجية التركية، يلخص الكاتب رؤية مهندس الاستراتيجية لهذه السياسة، أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية حالياً، التي ترتكز على ثلاثة أطروحات وهي[1]:

1- التحول الحضاري

2- العمق الاستراتيجي

3- العثمانية الجديدة

وقوام هذه الأخيرة (العثمانية الجديدة) ثلاثة مرتكزات:

1-    أن تتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، وتعتز بماضيها "العثماني" متعدد الثقافات والأعراق، وتوسع الحريات في الداخل، وتحفظ الأمن في الخارج.

2-    استبطان حس العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية.

3-    الاستمرار في الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات متوازنة مع الشرق الإسلامي.

ويقول الكاتب بأن ("العثمانية الجديدة" من هذا المنظور هي التي تقوم على القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية.. إنها تعني علمانية أقل تشدداً في الداخل، ودبلوماسية نشطة في الخارج، خاصة في المجال الحيوي لتركيا).

يستلخص الكاتب (من خلال النظر إلى التجربة التركية، لا يمكن أن نستسلم لمقولة أن العالم العربي سيظل وسيبقى خارج إطار الحداثة والنهوض، وأن مجتمعاته ومنظوماته عصيّة على التحديث بزعم أنها مجتمعات يمثل فيها الدين (الإسلام) بعداً أساسياً في حياة الناس).

ويرى الكاتب أنه رغم تباين الواقع التركي والواقع العربي في العديد من القضايا والمسائل الهامة التي شكلت الوضع الحالي لكليهما، إلا أن ذلك لا يعني بأن دروس التجربة التركية لا يمكن الاستفادة منها عربياً، ويدعو العرب، إسلاميين وعلمانيين على حدٍ سواء، إلى التبحّر أكثر في هذه التجربة، فأكثر مثبطات نهضتنا وتحولنا نحو الديمقراطية في العالم العربي –كما يقول- هو غياب الحد الأدنى من الإجماع بين القوى أو التيارات الوطنية الأساسية، ويعني التيار العلماني، التيار الليبرالي، والتيار الإسلامي.

رغم صغر حجم الكتاب، 120 صفحة من القطع الصغير، إلا أنه يحتوي على الكثير من الدروس التي ينبغي الوقوف عندها طويلاً، لاستخلاص العبر والفوائد، خاصة في هذه الأوقات التي تعيش فيها الأمة مرحلة انتقالية سريعة، تحتاج إلى عقول مفكّرة تستلهم الدروس من تجارب الدول الصاعدة، القريبة منها خاصة كتركيا.

الكاتب (جلال ورغي)

 باحث متخصص في قضايا المغرب العربي، مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية.

 حاصل على ماجستير في التاريخ المعاصر والعلوم السياسية من معهد بيركباك، جامعة لندن.

 حاصل على الإجازة في القانون والإجازة في الفلسفة.

 يعد بحث دكتوراه حول "تجربة التحديث في تونس" في جامعة أكستر البريطانية.

الكتاب

 أحد مطبوعات (أوراق الجزيرة) التي تصدرها مركز الجزيرة للدراسات

 الطبعة الأولى 2010

 نشر وتوزيع: الدار العربية للعلوم ناشرون

 120 صفحة، من القطع الصغير


[1] بلوّر أوغلو أطروحاته في السياسة الخارجية في كتابٍ ضخم "العمق الاستراتيجي"، أعيد طبعه أكثر من 17 مرة منذ صدور طبعته الأولى في العام 2001، وقم مركز الجزيرة للدراسات بترجمته مؤخراً.

 

 

نُشرت بواسطة

alharban

Bahraini guy, working at Al Jazeera Media Netowrkin Doha. Triathlete, 2 IM in pocket. Founder of @weallread.

3 تعليقات على “الحركة الإسلامية التركية”

اترك رد