العصفورية

    إذا كان فهرس الكتاب الذي أقرأه غير وافي وكافي ويخفي كثير من المواضيع التي يحملها الكتاب، وكثيراً ما يكون كذلك، تجدني أنشئ فهرساً خاصاً بي في الصفحة الأولى من الكتاب أو الأخيرة، أيتهما تُركت فاضية، كلما مرَّت علي فائدة أو رأي أعجبني أو أثارني سجلته فيه مع رقم الصفحة، وهذا ما يفعله معظم محبي القراءة، حتى يرجعوا بسرعة لبعض المعلومات أو الملاحظات التي أعجبتهم دون كثير عناء في البحث والتنقيب، ويكفيهم أن يتذكروا بأن الموضوع “الفلاني” قد تناوله هذا الكتاب حتى يرجعوا إلى ما قرأوه يوماً، ليستخدموه في اقتباس أو تحليل أو مجرد للتذكر أو غيرها.. وهكذا.288ima
بين يَدَّي رواية قرأتها منذ فترة للدكتور غازي القصيبي بعنوان (العصفورية)، والعصفورية مصحة نفسية يلتقي فيها الأطباء بالمرضى النفسيين، حيث التقى –في الرواية- الدكتور الشامي (ثابت) بـ (البروفيسور) بطل الرواية، ومن المهم الإشارة إلى أن بطولة هذا الأخير في لسانه لا غير! حيث أن الرواية من أولها إلى آخرها عبارة عن “هذرة” بين الدكتور وهذا المريض المسمى بالبروفيسور، وبدقة أكثر،”هذرة” هذا البروفيسور العجيب على الدكتور ثابت، وتناوله لقضايا وظواهر وشخصيات كثيرة !
لا أستغرب أن أرى من يقرأها أمامي وهو يضحك بصوت عالي، فهذا ما كنت أفعله، الرواية ساخرة إلى أبعد الحدود، ورغم خلوها من الأحداث المتسلسلة واقتصارها على “النطنطة” من موضوع إلى آخر، إلا أنها رائعة بأسلوبها الشيق الساخر.. أسلوب القصيبي !
لم أستثنِ الروايات من إنشاء فهارسي الخاصة بها، فكما تعلمون بأن الكاتب يتناول في روايته آراء ووجهات نظر وتعليقات حول بعض المواضيع، أو ربما يورد في روايته معلومات قيّمة. لذا دعوني أن أقدم لكم هنا عنوانان كتبتهما في فهرسي الخاص لهذه الرواية مع نقل ما أشارا إليه..
الأخلاق.. لا يمكن تطويرها بعيداً عن الدين
مقطع من حوار البروفيسور مع الدكتور ثابت، الذي بدأ ببداية الرواية، وانتهى بنهايتها! والحديث بدايةً هنا للبروفيسور :
         سو وت إز يور بروبلم دوك ؟! هل تود أن نبحث موضوع الخير والشر؟! نبحث! في البداية، لا يوجد نظام أخلاقي بمعزل عن الدين. لا أتكلم عند ديني فحسب، أتكلم عن الدين عموماً. بدون دين، لا يمكن أن توجد معايير أخلاقية. عندما تصبح متديّناً، يمكن أن تدينني أخلاقياً.
         شو ها الحكي يا بروفيسور؟! شو خصّ الدين بالأخلاق. ممكن الواحد يكون ملحد وعنده أخلاق عالية.
         آه! بدأت، يا حفيد فرويد، تتكلّم لغة جدك فرويد. ومع احترامي الشديد لكما، أقول إن هذا كلام فاضي. تجليط. ربش! والفلاسفة الذين حاولوا تطوير فلسفة أخلاقية بمعزل عن الدين وقعوا في حيص بيص. وحيص بيص تعني ربكة وربشة ودهشة. وحيص بيص اسم شاعر خرج من منزله ذات يوم وقال: (مالي أرى الناس في حيص بيص؟). فسمّاه الناس حيص بيص. ونسوا اسمه الأصلي. ونسيته أنا. ونساه هو. وهذا ليس موضوعنا الآن. موضوعنا الفلاسفة الذين وقعوا في حيص بيص. بدءاً بالعم أفلاطون اليوناني وانتهاءً بالأعمام المنفعيين في هذا القرن. أفلاطون غير المتدين اضطر، في نهاية المطاف، إلى اقحام الآلهة في حكاية الخير والشر. زعم أنه يمكن تبيّن الخير كحقيقة قائمة بذاتها، ولكنه أتى بالآلهة، زيادة في الاحتياط. والمنفعيون في هذا الزمان قالوا إن العمل الأخلاقي هو الذي يحقق أكبر قدر ممكن من السعادة لأكبر عدد ممكن من الناس. يا سلام! هذا هو العمل الأخلاقي؟ ربّما سببت إباحة الزنا مثل هذه السعادة. أو إباحة المخدرات. بهذا المقياس، يصبح كل شيء أخلاقياً، إذا ارتضت الأغلبية. والأغلبية الساحقة في ألمانيا ارتضت هتلر. أو هل نسينا ذلك؟ بدون معيار ديني ثابت لا يتغير، يتحول عمل الشر إلى عمل خير، والعكس، بمجرد تغير مشاعر الناس. يمكننا أن نتصوّر مجتمعاً في الغد يرحب بقتل كبار المسنين والعجزة، برضا الأغلبية.
         هيدي مبالغة، يا بورفيسور! مبالغة فظيعة!
…..
         … لم يوجد فيلسوف واحد نجح في تطوير فلسفة أخلاقية لا دينية … ثم جاء الفيلسوف نيتشه الذي أعلن، قبحه الله ولعنه، موت الله، وموت كل الأخلاقيات الدينية. والبديل، يا نيتشه؟! البديل هو (السوبرمان)، الذي تحلل من كل المواريث الخلقية ليطور أخلاقياته الخاصة. (السوبرمان) الذي لديه من عظمة الروح ما يجعل أعماله فوق الخير والشر. يا سلام! مات نيتشه مجنوناً. الحق أقول لك، أنه جن نتيجة هذه الفلسفة. حاول أن يكون (السوبرمان)، فأصبح المجنون. اللهم شماتة، وألف شماتة! وفتح نيتشه الباب أمام الفلسفة الوجودية. التي أردات أن تكحلها فعمتها. إذا اتخذت قرارك بمطلق الحرية، كان قرارك أخلاقياً. والسلام! بالله عليك، أليس هذا تخريفاً ؟ …
         أوكي يا بروفيسور! أوكي! أوكي! أوكي! آمنا واقتنعنا. لا أخلاق بدون دين. هل من الممكن أن نعود إلى قصة حياتك ؟
         أنت الذي بدأت قضية الخير والشر. عندما تصبح متديناً سوف أقبل منك أحكاماً أخلاقية. أنت الذي بدأت !
مناقشة فكرية !
وفي الصفحات الست التي يحيل إليها هذا العنوان، يقص البروفيسور على الدكتور ثابت الحوار الذي دار بينه وبين أحد المنتمين لجماعة حزب النور -يقصد الإخوان المسلمين- عندما جمعهم السجن، وسماه (الدكتور ضياء المهتدي)، وقد تناول الحوار قضايا فكرية عديدة، أنقل ما جاء في آخرها – دون قصد مناقشة أو إثارة هذه الأفكار أو الحديث عن أصحابها – والحديث يبدأ للبروفيسور في رده على استشهاد ضياء بكلام الشهيد سيد قطب (رحمه الله) :
“(سبق أن قلت لك أننا لا نبحث عن نصر عاجل). قلت: (ولا يجب أن نبحث عن موت محقق. القوة الآن للعلم يا أخي ضياء. أصبع تضغط على زر فيموت ملايين البشر. ما لم تملك هذا الزر فلا تبدأ معركة مع من يملكه. وأنا بصراحة، يا أخي ضياء، لست متفائلاً بازدهار العلم في دولة تتخذ من أفكار سيد قطب دستوراً لها). قال فضيلته مستنكراً: (ماذا تقصد؟). قلت: (هات الكتاب! يقول سيد قطب: “أصبح نتاج الفكر الأوروبي بجملته – شأنه شأن إنتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان في جميع البقاع – شيئاَ آخر ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقدمات التصور الإسلامي“. أخشى لازم هذا المذهب). قال فضيلته: (لازم المذهب ليس بمذهب. ولكن ماذا تخشى؟). قلت: (أخشى أن يؤدي رأيه إلى رفض العلوم كلها باعتبارها نتاج فكر أوروبي جاهلي). قال فضيلة الدكتور: ( ولكن الإمام الشهيد استثنى العلوم التطبيقية البحت). قلت: (أخشى أنه لم يستثنها). إسمع ما يقوله: “إن هناك ارتباطاً بين القاعدة الإيمانية وعلم الفلك، وعلم الأحياء وعلم الأحياء، وعلم الطبيعة، وعلم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض“. هذا كلام غريب يا أخي ضياء. كيف توجد لعلوم طبيعية كهذه قاعدة إيمانية؟). قال ضياء المهتدي: (أوضح الإمام الشهيد قصده عندما قال إن الهوى المنحرف استخدم هذه العلوم للانحراف عن الله). قلت: (أنا لا أتحدث عن الهوى. أتحدث عن العلم. العلم علم! العلم هو محاولة لاكتشاف القوانين التي أودعها الخالق خليقته. إذا سبق المسلمون إلى اكتشافها، فهذا الأولى. أما إذا سبق غير المسلمين فهذا لا يغير من طبيعتها العلمية؛ لا يوجد قانون جاذبية إسلامي وقانون جاذبية كافر. ولا توجد معادلات رياضية صالحة ومعادلات طالحة. وإذا رأى الشهيد العظيم غير ذلك، فقد كان الشهيد العظيم على خطأ). قال ضياء المهتدي: (التقدم الجاهلي مرفوض حتى عندما يكون تقدماً علمياً). قلت: (معذرة يا أخي ضياء! لا يوجد تقدم علمي جاهلي وتقدم علمي إسلامي. يوجد تقدم علمي وتخلّف علمي. الشر في القرار السياسي الي يسيئ استخدام العلم، لا في العلم نفسه. العلوم محايدة)…”
 
في لقاء مع جريدة الوطن، حاورت الأخت الفاضلة أمل المرزوق الدكتور القصيبي، وهذا  أحد الأسئلة التي وجهتها إليه:
يا سيدي “جئت بذكر صدام حسين في أكثر من إصدار لك، على سبيل المثال: شقة الحرية، سيرتك الشعرية، وحياة في الإدارة” فما طبيعة العلاقة التي جمعتك بحسين؟
         لم أرَ صدام حسين سوى بضع مرات خلال مؤتمرات قمة، ولم ألقه لقاءاً ثنائياً سوى مرة واحدة. من الناحية الشخصية إذن لا توجد علاقة من أي نوع (ولاتصدقي كل ما تقرأينه في “شقة الحرية”!). إلا أن صدام حسين يشغلني كـ (ظاهرة) .. ظاهرة الديكتاتور الذي يستعبد شعباً كاملاً ويقوده إلى الدمار، ويجد مع ذلك من يصفق له ويشيد به. إلى هذه الظاهرة تطرقت في “العصفورية” عبر شخصية برهان سرور، وناقشتها بتفصيل أكبر عبر شخصية “همام أبو سنتين” في رواية سعادة السفير. إن النقاش حول ظاهرة الديكتاتور يجب ألا يتوقف بموت الديكتاتور. يجب أن نفهم طبيعة الوحش حتى لا يمتلئ مستقبلنا بالوحوش.
 
يحزن المرأ عندما يقرأ أو يرى واقعنا الذي نعيش.. (العصفورية) –بسخريتها- تجعلك ترى هذا الواقع وأنت تضحك !
 
 

نُشرت بواسطة

alharban

Bahraini guy, working at Al Jazeera Media Netowrkin Doha. Triathlete, 2 IM in pocket. Founder of @weallread.

8 تعليقات على “العصفورية”

  1. مسامحة اخوي لكن انت مع لحيتك تميل لغازي القصيبي عدو الاسلاميين بينما يعجبك من كتابه الفقرة التي تنتقد الكاتب الاسلامي سيد قطب رحمه الله شيخ وأستاذ كل المؤلفين الاسلاميين في العصر الحديث.. ولكنك لا تعرف في الكتابة الاسلامية ولا تفهم فيها اذ ان كل قراءاتك هي للعلمانيين والتافهين من الناس.. غازي القصيبي شخص سطحي يغلف تفاهاته بغلاف جميل الشكل..

  2. أخوي العزيز صاحب آخر تعليق..(مع لحيتي).. مو شرط كل فقرة أشير إليها في فهارسي الخاصة تكون تعجبني..قلت: (جدني أنشئ فهرساً خاصاً بي في الصفحة الأولى من الكتاب أو الأخيرة، أيتهما تُركت فاضية، كلما مرَّت علي فائدة أو رأي أعجبني أو (( أثارني )) سجلته فيه مع رقم الصفحة).ثم وإن أعجبتني الفقرة.. ما العجب أو الضير أو المثير أو المستغرب أو العجيب في ذلك ؟!ثم ما دخل جهلي بالكتابة الإسلامية ؟!هل أدعيت يوماً بأني صاحب الكتابات الإسلامية ؟!أم أن عنوان المدونة يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد ؟!وفقني الله وإياك للخير 🙂

  3. مرة أخرى تقاجئني ب ” العصفورية ” !!؟

    ما اعجبني حقا موضوع الفهرس الخاص بك 🙂 قابل للاقتباس 🙂 !!

    الحكمة ضالة المؤمن يا صاحب آخر تعليق علق عليه أ. أحمد !!!؟

    آسفة لتطفلي …

    دم كما أنت وأفضل

  4. العصفورية بالذات .. لا أدري إلى متى تبقى مؤجلة في قائمتي … رغم كثرة الإغراءات …

    ربما لم أتخلص تماماً من عقدة الرواية العربية …

    لكن سأقرأها ان شاء الله

    شكراً على “التحريض” يا أحمد 🙂

  5. مهاجمته للاسرميين لا تعني تحريم قراته في هذا الوقت حتى الاسلاميين يعادون بعض اسلاميين والعصفوريه من اروع ما قرأت كما احببت كتاب عائض القرني

  6. شكلها رواية رائعه سوف اقوم بقرائتها

    استاذ احمد شكرا جزيلاا على النقل

اترك رد