في اليوم الثامن من شهر يونيو عام 1939م خرجت من البيت عصرا لألتقي بأصحابي في القهوة الشعبية القريبة من الحي، وبعد أن جلست على الكرسي الخشبي الطويل ناولني بومبارك –الصديق الجار- عدد اليوم من جريدة البحرين، العدد الرابع عشر، طارت عيني على العنوان التالي (شعور البحرين نحو نكبة فلسطين) وعنوان آخر (سمو الشيخ عبدالله بن عيسى يترأس لجنة الإعانة.. أميران جليلان في عضوية اللجنة).. لم أتمالك نفسي.. شرعت في قراءة الخبر بسرعة الصاروخ! فقرأت بيان تأسيس اللجنة وأسباب تأسيسها وأسماء مؤسسيها، وجاء في البيان قراران أحدهما: "عقد اجتماع عام بعد ظهر يوم الجمعة الساعة 9:30 في فناء مسرح البحرين (سينما البحرين) يدعى له من يتوسم فيه النخوة والأريحية لجمع التبرعات، وقد طبعت بطاقات أرسلت إلى المدعوين."
طرت فرحا بعد قراءتي خبر تشكيل اللجنة وقلت: أخيرا يمكننا أن نقدم شيئا لدعم أخواننا الفلسطينيين، ثم صحت على صاحب القهوة بصيحة ملؤها نشوة الفرح (هات لي استكانة شاي.. وهات للربع بعد.. على حسابي).
ومن خلال قراءتي لأسماء مؤسسي اللجنة علمت أنها برئاسة الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة ، وشارك فيها عدد من كبار أعضاء الأسرة الحاكمة، وكبار تجار وأعيان البلد من الطائفتين السنية والشيعية.
عدت للجريدة أقرأ النداء، أي نداء؟! جاء بجانب بيان اللجنة:
نـداء عـام
وما تنفقوا من خير تجدوه عند الله!!
فلسطين أيها الشعب!
اليوم يوم الإسلام. اليوم يوم العروبة. اليوم يوم الصدقة. اليوم يوم الإحسان. اليوم يتقرب إلى الله محبوه، واليوم يؤدي واجب الوطن بنوه. اليوم تكتب صحيفتك أيها الشعب بين صحائف الشعوب العربية والإسلامية، واليوم يتجلى ما أنت عليه من دين وعاطفة وكرم ونجدة!! فلسطين أيها العرب فلسطين! يا أتباع محمد.. إنها نكبة لم يشهد التاريخ مثلها حلت بأمتك ودينك وعروبتك، وقد وُكِل إليك اليوم تخفيف بعض أعبائها والإشفاق على ضحاياها. في فلسطين إخوانكم في الدين وإخوانكم في العروبة أمضوا السنين الطوال والأذى يصب عليهم بما لم يلاقه أحد من قبل، ويتحملون منه ما لا يستطيع البشر حمله، لو لا الثقة بالله. ألوف من أنفسهم العامرة بالإيمان زهقت، ودماء زكية بُعد أريقت في سبيل الوطن في الجهاد والشهادة. تاركة وراءها من الأرامل والأيتام عشرات من الألوف لا يجدون من الطعام ما يأكلون، ولا من المأوى ما يسكنون، ولا من الثياب ما يلبسون. حفاة عراة، فراشهم الأرض وغطاءهم السماء.. –هنا أخواني القراء وقف شعر جنبي- هذه حقائق واقعة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، فليس فيها أثر للمبالغة، ولا زيادة عن الواقع.. منازل مهدومة، وأموال مسلوبة، ومئونة مبعثرة، وأثاث تلتهمه النيران.
كل هذا، وما هو واقع أكثر من هذا، لم يزدها إلا استماتة في الدفاع عن بلادكم المقدسة، خوفاً من أن ينطفئ فيها نور الإسلام، وينهدّ صرح العروبة، ودفاعا عن المسجد الأقصى المبارك؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين ومهد سيدنا عيسى عليه السلام.
فإذا كنتم لم تنفروا للجهاد بالنفس، فسارعوا إلى غوث أيتام الشهداء وأراملهم بالمال، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
انتهى النداء، وامتزجت حينها مشاعر السرور والأسى، فرحا بفتح جبهة رسمية لنصرة أخواننا في فلسطين، وحزنا على ما يلاقيه أخواننا هناك. اللهم أنصر إخواننا في فلسطين على أعداءهم.
انتظرت يوم الغد بفارغ الصبر، وجاء الغد سريعا، وكأنه هو أيضا كان ينتظر الحدث بفارغ صبره! وصلت للمكان (سينما البحرين) متأخرا، وإذ بالحضور الكثيف، يتقدمهم كبار القوم من شيوخ وعلماء وتجار، وقفت أتابع وأراقب، لم ألحق على الحفل من بدايته –للأسف هذه عادتي مع المواعيد، تقريبا كلها!- وبعد أن انتهى خطاب الشيخ عبد الحسين الحلي سألت من كان بجانبي: (ماذا فاتني؟). قال: (فاتك كلمة رئيس اللجنة الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة ألقاها الصحفي عبدالله الزائد –صاحب جريدة البحرين- وفاتك خطاب الشيخ عبداللطيف السعد). ثم وقف الشاعر الشاب عبدالرحمن المعاودة، وألقى قصيدة حماسية أذكر منها:
ومـــا راعنــي إلا دمــاء زكيــــة ٌ
تراقُ وخطبٌ في فلسطيــنَ قـائــمُ
هنــا لكَ إخــوانٌ علينــــا أعــــزة ٌ
رأوا نصرة َ الإسلام أقصى مُناهُمُ
تـنــادوا إلى نيـل الشهـادة وانبروا
يلبــّون صوتــا ًً للجهــاد دَعـاهُـــمُ
وكم خلـّفوا طفلا ً رضيعا ً وعاجزا ً
وأرملـة مـا إن لهـا الدهـر راحــمُ
تصيـح أيـا غوثــاه، والفكر شــاردٌ
ودمع الأسى منها على الخد ساجِمُ
ويـا رب ثكلـى رُوِّعت بوحيدهـا
بـأبشع مــا يجني على الحـق آثِـمُ
أغيثـــوا فلسطيـــن الشهيـــدة إنهـا
مـــآس ٍ تــتــارى كلهـــا ومــآتــــمُ
أغيثـوا يتـامى مـا لهـا من يعيلهــا
وأشتـات قـوم قـد أهينـوا فقـاومـوا
قضوا في سبيل الله ما قل عزمهـم
عذاب يزجيـه علـى النـاس ظـالــمُ
قضوا شهداء الحق والديـن والعـلا
ومـا ضعفـت أفعـالهــم والعزائـــمُ
بني البلد السامي سراعا ً إلى العلى
وهبـوا لأفعـال الكـرام وساهمـــوا
بلادكـم البحريـن (بحـر) سماحـــةٍ
و(بحر) هو الفضل الذي لا يزاحمُ
فجـودوا لأبنـــاء الشـقـيـقــة إنهــم
بأرواحهـم جـادوا لحفظ حِماكُمـوا
وبدأ الاكتتاب، وتبرع الحضور بمبالغ ضخمة وصلت إلى حوالي تسعة عشر ألف روبية، وما أدراكم ما تسعة عشر ألف روبية في زماننا ذاك، حيث الفقر والعوز!
بعد ذلك توالت الفعاليات في الأندية وغيرها لدعم الشعب الفلسطيني، وتوالت جهود أبناء البلد لتقديم ما يمكنهم تقديمه، وللاختصار سأكتفي بالوقوف عند هذه الحادثة التي أثرت فيني كثيرا، وسأعود للتعليق عليها بعد قليل، إنها قصة اللاري الصغير (شاحنة)، ففي طريق عودتي من المسجد، سمعت هاتفا ينادي (إعانة فلسطين.. إعانة فلسطين) فتتبعت الصوت حتى عرفت مصدره، إنه شاب يقف على لاري صغير (شاحنة) وبجانبه علم فلسطين، وبيده مكبرا للصوت وينادي (إعانة فلسطين)، لما وصلت إلى الشاحنة عرفت ذلك الشاب، إنه عبدالعزيز الشملان، فسألته: (ماذا تفعلون يا عبدالعزيز؟) رد علي: (كلفتنا اللجنة بأن نجوب في الأسواق والأحياء والقرى لجمع التبرعات العينية لإخواننا في فلسطين)، وكأني شغلته كثيرا عن مهمته فرجع يهتف مرة أخرى فور إجابته على سؤالي (إعانة فلسطين.. إعانة فلسطين) وما هي إلى دقائق وإذ بنساء القرية يتقاطرن على الشاحنة يرمين ما عندهن من تبرعات عينية، رغم ما هم فيه من حاجة وعوز! حتى سمعت كثيرا منهن يقلن لعبد العزيز وهن يعطينه ما لديهن (ما عندنا إلا هذا.. سامحونا)!
أخواني أخواتي القراء الكرام، عفوا.. هذه أحداث عشتها رغم أني ولدت بعدها بأربع وأربعين سنة! عشتها مع الكتاب الرائع (كلنا فداك.. البحرين والقضية الفلسطينية 1917-1948) للكاتب البحريني خالد البسام، فشكرا لك أستاذ خالد على هذا الكتاب الهام، وعلى هذا الجهد المبارك. أنصحكم باقتناء نسخة منه، فإنه سطر موقفا مشرفا ذاع صيته في الوطن العربي لأجدادنا على هذه الأرض الطيبة.
عودة لقصة اللاري (الشاحنة)، عندما قرأتها ملأت الدمعة مقلتي، لكنها لم تكن بالحجم الذي يسمح لها أن تغادر جفوني الجافة لتشق طريقها على الخد، يا لها من دمعة جامدة! وقلت في نفسي: يا حسرة.. كم كان أجدادنا يهتمون بقضايا وطنهم الأكبر، كم كان الحراك التضامني على أشده، كم كنا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، أما اليوم إضافة إلى تفرقنا وتشتتنا في مواقفنا تجاه القضايا المصيرية، فإننا نعيش لامبالاة رهيبة إزاء ما يمر به إخواننا في مختلف بقاع الأرض، آهٍ آهٍ آه.
لن أتطرق لإجابات التساؤل الذي شغلني حينها، والتي حصلت عليها بعد جهد ذهني بسيط، وسأكتفي بإيراده فقط: من السبب وراء هذه اللامبالاة التي نخرت عقول شبابنا؟! ومن السبب وراء هذا الجمود؟!
في البدايه حبيت اشكرك اخوي احمد على هذي المقاله الحلوه
واللي بديت لنه بشعورك تجاه كتاب كلنا فداك.. البحرين والقضية الفلسطينية 1917-1948) للكاتب البحريني خالد البسام..
وعن سؤالك ((من السبب وراء هذه اللامبالاة التي نخرت عقول شبابنا؟! ومن السبب وراء هذا الجمود؟!)) ففي اعتقادي أن الاعلام يلعب دور كبير في انه يلهي الانسان عن قراءة هذه الاشياء الجميله وغيرها من الاسباب
والله يوفقك يااحمد 🙂
شكرا (مجهول) على المداخلة 🙂
ولا شك أن للإعلام دور رئيسي مثل ما تفضلت
وفقنا الله وإياك لكل خير
شكرا لدعوتك حقا اهتممت بما كتبت
رائع ولك تحياتي
قدري ثائر فلسطين
السلام عليكم
جميل ما كتبت
أشكرك من قلبي على مشاعرك تجاه وطني ووطنك فلسطين
هي هموم كثيرة نعيشها هناك ولكن قله من يشعرون بنا
او ربما كثيرون ولاكن ما بيدهم حيلة
اشكرك على دعوتك لمدنتك
ودمت وسلمت
سلوى.. فلسطين المحتله
شكرا احمد لطرحك محتوى الكتاب بهذه المشاعر الرقيقه العنيفه حسيا بمحتواها.. عن نفسي سابحث عندنا هنا ربما ساجد الكتاب ان حالفني الحظ..!!
ساحمله لك بقلبي هذا الطرح الجميل…. للامانه ابكيتني بشده وانا اقرأ لان النار شاعله بالقلب مما يجري الان … اين كنا واين صرنا !!!
الجمود والامبالاه: اترك الواقع ليجيب..
اخي احمد الفاضل
بارك الله فيك على هذه المشاعر النبيلة التي تكنها لاخوتك المسلمين.
نسال الله ان ينصرنا والاسلام وينصر اهلنا في العراق امين يا رب العالمين.
بالنسبة لسؤالك اعتقد,كما ذكر اعلاه,ان الاعلام له دور كبير في ذلك.
ايات/فلسطين
(قدري ثائر فلسطين)
حياك الله عزيزي 🙂
(lady jamila)
عفواً
أزاح الله همومكم
وأبدلها سكينة وأمان
(سلوى)
شكراً لمداخلاتك الطيبة
ولتشجيعك المستمـــر
أذهب الله الحزن.. وأسعدك في الدارين.. الدنيا والآخرة.. آمين
(آيات)
وفيك بارك
الله يستجيب دعوتك يا رب 🙂
لست في مقام التقييم كي أُقيم هذا المقال
لكن لا أملك إلا بضع كلمات أدعو الله أن تكون حروفها من نور
“..ملأت الدمعة مقلتي، لكنها لم تكن بالحجم الذي يسمح لها أن تغادر جفوني الجافة لتشق طريقها على الخد، يا لها من دمعة جامدة!”.
“..فإننا نعيش لامبالاة رهيبة إزاء ما يمر به إخواننا في مختلف بقاع الأرض، آهٍ آهٍ آه”.
لست في مقام التقييم كي أُقيم هذا المقال
لكن لا أملك إلا بضع كلمات أدعو الله أن تكون حروفها من نور
“..ملأت الدمعة مقلتي، لكنها لم تكن بالحجم الذي يسمح لها أن تغادر جفوني الجافة لتشق طريقها على الخد، يا لها من دمعة جامدة!”.
“..فإننا نعيش لامبالاة رهيبة إزاء ما يمر به إخواننا في مختلف بقاع الأرض، آهٍ آهٍ آه”.
التوقيع:
متدودهه من الوضع
هذه هي اثار العولمة اخوي احمد وهذا هو نتاجها وهذا هو الاستعمار الجديد ليس بالمدفع والدبابة بل الاستعمار الفكري الاقتصادي والاجتماعي.
سؤال بسيط اوجهه الى قارىء تعليقي او بعض الاسئلة :
شنو ماركة كمبيوترك؟
شنو ماركة سيارتك؟
شنو ماركة تلفونك؟
شنو ماركة ملابسك؟
شنو ماركة ساعتك؟ …………. والله لواتم اسالك ما بخلص المهم انا قصدي اشلون تبي اندافع عن قوميتنا واحنا في وضع المحتاج او المذلول
اخي العزيز
اه اه امريكا قدرت تملك قادتنا وتحتل عروبتنا
ألآ يغضبك هذا الواقع المعجون بالهول ِ
وما نلقاه في دوامة الإرهاب والقتل
متى يشعرون بنا
إذا انتهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا
إذا قُتلت شهامتنا إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا ولم نجد اخواتنا في عروبتنا مادا نعمل
شعرت بكلامك وبدفئ احساسك
لك إحترامي وتقديري
رولا زهران